الاستقامة طريق النجاة
قال ابن القيّم -رحمه اللّه تعالى-: الاستقامة هي لزوم المنهج القويم. قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ﴾ (فصلت/ 30)
وقال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ (الأحقاف/ 13)
إلى قوله: ﴿ يَعْمَلُونَ ﴾
وقال تعالى لرسوله -صلّى اللّه عليه وسلّم-: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ ﴾
(هود/ 112) إلى قوله: ﴿ بَصِيرٌ ﴾
فبيّن أنّ الاستقامة بعدم الطّغيان، وهو مجاوزة الحدود. وقال:
﴿ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ﴾
(فصلت/ 6).
والمقصود من العبد الاستقامة وهي السّداد، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة.
وعند مسلم من حديث أبي هريرة، عن النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- قال:
( سدّدوا وقاربوا، واعلموا أنّه لن ينجو أحد منكم بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول
اللّه؟ قال: ولا
أنا، إلّا أن يتغمّدني اللّه برحمة منه وفضل ).
فجمع في هذا الحديث مقامات الدّين كلّها: فأمر بالاستقامة وهي السّداد، والإصابة في
النّيّات والأقوال. وأخبر في حديث ثوبان أنّهم لا يطيقونها فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن
يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم، كالّذي يرمي إلى الغرض، وإن لم يصبه يقاربه.
ومع هذا فقد أخبرهم أنّ الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة؛ فلا يركن أحد إلى
عمله، ولا يرى أنّ نجاته به؛ بل إنّما نجاته برحمة اللّه وغفرانه وفضله، فالاستقامة
كلمة جامعة آخذة بمجامع الدّين، وهي القيام بين يدي اللّه تعالى على حقيقة الصّدق
والوفاء بالعهد.
والاستقامة تتعلّق بالأقوال والأفعال والأحوال والنّيّات، فالاستقامة فيها، وقوعها للّه
وباللّه، وعلى أمر اللّه.
قال بعضهم: كن صاحب الاستقامة، لا طالب الكرامة؛ فإنّ نفسك متحرّكة في طلب
الكرامة، وربّك يطالبك بالاستقامة. فالاستقامة للحال بمنزلة الرّوح من البدن، فكما أنّ
البدن إن خلا عن الرّوح فهو ميّت، فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد. وكما
أنّ حياة الأحوال بها، فزيادة أعمال الزّاهدين أيضا ونورها وزكاؤها بها، فلا زكاء
للعمل ولا صحّة بدونها.
وقال رحمه اللّه تعالى: «من هُدِي في هذه الدّار إلى صراط اللّه المستقيم الّذي أرسل به
رسله وأنزل به كتبه، هُدِي هناك إلى الصّراط المستقيم الموصل إلى جنّته دار ثوابه،
وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصّراط الّذي نصبه اللّه لعباده في هذه الدّار، يكون
ثبوت قدمه على الصّراط المنصوب على متن جهنّم، وعلى قدر سيره على هذا الصّراط
يكون سيره على ذاك الصّراط، ولينظر العبد الشّبهات والشّهوات الّتي تعوقه عن سيره
على هذا الصّراط المستقيم؛ فإنّها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصّراط تخطفه وتعوقه عن
المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت، فكذلك هي هناك
﴿ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾
(فصلت/ 46)».
إذا استقام القلب استقامت الجوارح:
قال ابن رجب -رحمه اللّه تعالى-: « أصل الاستقامة استقامة القلب على التّوحيد .
وقد فسّر أبو بكر -رضي اللّه عنه- الاستقامة في قوله تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ﴾
بأنّهم لم يلتفتوا إلى غيره، فمتى استقام القلب على معرفة اللّه، وعلى خشيته،
وإجلاله، ومهابته، ومحبّته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتّوكّل عليه، والإعراض عمّا
سواه - استقامت الجوارح كلّها على طاعته؛ فإنّ القلب هو ملك الأعضاء، وهي
جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه. وأعظم ما يراعى استقامته بعد
القلب من الجوارح اللّسان، فإنّه ترجمان القلب والمعبّر عنه ».
وأورد الطّاهر بن عاشور في تفسير قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ﴾
ما يلي:
الاستقامة حقيقتها: عدم الاعوجاج والميل، والسّين والتّاء فيها للمبالغة في التّقوّم،
فحقيقة استقام: استقلّ غير مائل ولا منحن.
وتطلق الاستقامة أيضا على ما يجمع معنى حسن العمل، والسّير على الحقّ والصّدق،
قال تعالى: ﴿ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ﴾ (فصلت/ 6) وقال: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ﴾
(هود/ 112) فاستقاموا تشمل معنى الوفاء بما كلّفوا به، وأوّل ما يشمل من ذلك أن
يثبتوا على التّوحيد، أي: لا يغيّروا ولا يرجعوا عنه، وعن أبي بكر: ﴿ ثُمَّ اسْتَقامُوا ﴾
لم يشركوا باللّه شيئا
وعن عمر رضي الله عنه : استقاموا على الطّريقة لطاعته، ثمّ لم يروغوا
روغان الثّعالب .
وقال عثمان رضي الله عنه : ثمّ أخلصوا العمل للّه
وعن عليّ رضي الله عنه : ثمّ أدّوا الفرائض. وكلّ هذه الأقوال
ترجع إلى معنى الاستقامة في الإيمان وآثاره.
والاستقامة زائدة في المرتبة على الإقرار بالتّوحيد؛ لأنّها تشمله وتشمل الثّبات عليه
والعمل بما يستدعيه.
وجمع قوله: ﴿ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ﴾ أصلي الكمال الإسلاميّ، فقوله:
﴿ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ يشير إلى الكمال النّفسانيّ، وهو معرفة الحقّ للاهتداء به، ومعرفة
الخير
لأجل العمل به.
والخلاصة أنّ الاستقامة -كما يقول صاحب البصائر- كلمة آخذة بمجامع الدّين، وهي
القيام بين يدي اللّه تعالى على حقيقة الصّدق والوفاء بالعهد، وهي تتعلّق بالأقوال
والأفعال والنّيّات، والاستقامة فيها وقوعها للّه وباللّه وعلى أمر اللّه تبارك وتعالى.
وقوله: ﴿ اسْتَقامُوا ﴾ يشير إلى أساس الأعمال الصّالحة، وهو الاستقامة على الحقّ،
أي أن يكون وسطًا غير مائل إلى طرفي الإفراط والتّفريط.
أنواع الاستقامة:
الاستقامة هي أمر فردي وأمر جماعي، فإن هناك جوانب لا تتم الاستقامة بها على
المستوى الفردي، ولا تحصل ولا تنتج إلا على المستوى الجماعي، والدليل على ذلك
قول الله -عز وجل- في الآية:
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا ﴾
[هود:112].
إذًا: نزل الأمر بالاستقامة للرسول -صلى الله عليه وسلم- المستقيم أصلًا، لكن ليزداد
في الاستقامة ويثبت عليها، ومن تاب معه من صحابة الرسول -صلى الله عليه
وسلم- خير الأمة، الذين تابوا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسلكوا سبيل
الاستقامة.
إذًا: هناك أمورٌ لا بد من الاستقامة فيها في المجال الجماعي: كالجهاد في سبيل الله،
وتوجيه طاقات الأمة، ومعاملة المجتمع الإسلامي كوحدة واحدة مع الكفرة.
إذًا: لا بد أن تكون استقامتنا استقامة فردية، كل إنسان بنفسه، واستقامة جماعية،
استقامة المجتمع كله لله عز وجل.
أسباب الاستقامة:
1 - صحة الإيمان واليقين: لأن الانحراف والفتور والتراجع ينشأ عن ضعف اليقين،
كلما كان الإيمان أقوى، تحققت الاستقامة وتكاملت وتمت، قال تعالى:
﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّه حَقّ ﴾ [الروم:60].
2- التبصر بالدين: والعلم بما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة والتبصر فيهما،
والتدبر لهما، تدبر القرآن يُورِث معرفةً بما أمر الله به، وبما نهى عنه، وفي القرآن
الترغيب والترهيب والوعد والوعيد.
فالعلم بهذه النصوص واستشعارها واستحضارها من أسباب الاستقامة، أن تَعْلَم أن الله
أمرك، أن تعلم عاقبة الطاعة، وعاقبة المعصية، وعاقبة تركها، فالعلم بذلك واستشعاره
من أسباب الطاعة.
3- الدعاء: فيسأل الإنسان ربه الثبات "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم
اهدني الصراط المستقيم"، فالدعاء الواجب والمستحب يتضمن سببًا من أسباب
الاستقامة.
4- اختيار الصحبة الصالحة: فالصحبة الصالحة الذين يُذَكِّرون الإنسان إذا نسي،
ويأمرونه بما يجب عليه، وينكرون عليه إذا انحرف، ويعينونه إذا كَسُلَ، قال تعالى:
﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾
[التوبة:71].
آثار الاستقامة
إن أعظم آثار الاستقامة مغفرة الله ورحمته وكرامته ورضوانه، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأحقاف:13-14].
يأتي المؤمن يوم القيامة وهو آمن، والناس يخافون ويفزعون، قال تعالى:
﴿ أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [فصلت:40].
أمن وهدى، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [الأنعام: 82].
في الآية الأخرى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾ [فصلت:30].
يُقَيِّض الله لهم الملائكة في أصعب الأحوال، تطمئنهم في الدنيا، وأيضًا تُقَوِّي فيهم الثقةَ
بالله، والتوكلَ عليه، وحُسْنَ الظن به، لا حُسْن الظن الذي هو اغترار وأماني، إنما
حُسْنُ الظن المبني على مجاهدة النفس، والجد، والاجتهاد في طاعة الله، فتنزل عليهم
عند الموت وفي القبر، وتتلقاهم يوم القيامة: ألا تخافوا ولا تحزنوا .
قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ
حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ
هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾
[الأنبياء: 101-103].
إِنَّ مِن عاقبة الاستقامة:
السعادة في الدنيا والآخرة، فأهل الإيمان هم في نعيم في
الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة .
المراجع:
1- جامع العلوم والحكم لابن رجب.
2- مدارج السالكين لابن القيم.
3- نضرة النعيم بإشراف صالح بن حميد، وعبد الرحمن بن ملوح.
4- الاستقامة (حقيقتها وأسبابها وآثارها) لعبد الرحمن البراك.
المصدر : موقع الإسلام